فصل: تفسير الآيات (36- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (26- 30):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذ قال إبراهيمُ} أي: واذكر وقت قوله عليه السلام {ولأبيه وقومه} المُنكّبين على التقليد، كيف تبرأ مما هم فيه بقوله: {إِنني بَرَاء} أي: بريء {مما تعبدون}، وتمسك بالبرهان. وذكر قصته ليسلكوا مسلكه في الاستدلال، أو: ليقلدوه، إن لم يكن لهم بُد من التقليد؛ فإنه أشرف آبائهم. و{برَاء}: مصدر، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكر والمؤنث، كرجل عدل، وامرأة عدل، وقوم عدل. وما: إما مصدرية، أو: موصولة، أي: بريء من عبادتكم ومن معبودكم {إِلا الذين فَطَرَني}؛ استثناء متصل، أو: منقطع، على أن ما تعم أُولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام، او: صفة، على أن ما موصوفة، أي: إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي {فطرني}؛ خلقني {فإِنه سيَهدين}؛ يثبتني على الهداية، أو: سيهدين إلى ما وراء الذي هداني إليه الآن. والأوجه: أن السين للتأكيد دون التسويف، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار.
{وجعلها} أي: وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد التي تكلّم بها، وهي قوله: {إِنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني}، {كلمة باقية في عَقِبهِ} أي: في ذريته، حيث وصَّاهم بها، كما نطق به قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ...} [البقرة: 132]، فلا يزال فيهم مَن يوحّد الله تعالى، ويدعوهم إلى توحيده. {لعلهم يرجعون} أي: جعلها باقية في ذريته رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم بدعاء الموحّد.
{بل متعتُ هؤلاء}، ضراب عن محذوف، ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: جعلها كلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم، فلم يحصل ما رجاه، بل متعتُ هؤلاء المعاصرين من أهل مكة. {وآباءهم} بالمد في العمر، والنعمة، والمهلة، فاغترُّوا بالمهلة، وانهمكوا في الشهوات، وشُغلوا بها عن كلمة التوحيد، {حتى جاءَهم الحقُّ}؛ القرآن {ورسولٌ مبينٌ}؛ ظاهر الرسالة، واضحها بالمعجزات الباهرة، أو: مبين التوحيد. بالآيات والحجج القاطعة.
وفي الآية توبيخ لهم، فإن التمتع بزيادة النعم يُوجب أن يجعلوه سبباً لزيادة الشكر، والثبات على التوحيد والإيمان، فجعلوه سبباً لزيادة أقصى مراتب الكفر والضلال.
وحاصل معنى الآية: أنه تعالى جعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم عليه السلام ليدعو الموحّد المشرك، نسلاً بعد نسل، فيرجع المشرك عن شركه، فلم يرجعوا، بل اغترُّوا بما مُتّعوا به، فاستمرّوا على الشرك حتى جاءهم الحق، فكفروا وأصرُّوا، {ولمَّا جاءهم الحقُّ} أي: القرآن يُنبههم على ما هم عليه من الغفلة، ويُرشدهم إلى التوحيد، ازدادوا كفراً وعُتواً، وضمُّوا إلى كفرهم السابق معاندة الحقوالاستهانة به، حيث {قالوا هذا سحر وإِنا به كافرون} فسَمّوا القرآنَ سحراً، وجحدوه ومَن جاء به.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: كان إبراهيم عليه السلام إمام أهل التوحيد، لقوله تعالى: {إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124]، وجعل الدعوة إليه في عقبه إلى يوم القيامة، وهو على قسمين: توحيد البرهان، وتوحيد العيان. وقد جاءت بعده الرسل بالأمرين معاً، وقام بها خلقاؤهم بعدهم، فقام بالأول العلماء، وقام بالثاني خواص الأولياء، أهل التربية الحقيقية، ولا ينال من توحيد العيان شيئاً مَن علق قلبه بالشهوات الجسمانية، والحظوظ الفانية، كما قال الششتري رضي الله عنه:
ترَكْنا حُظوظاً من حضيض لُحُوظنا ** مع المقصد الأقصى إلى المطلب الأسنى

وكل مَن تمتع بذلك، وانهمك فيه حَرِمَ بركة صحبة العارفين؛ إذ يمنعه ذلك من حط رأسه، ودفع فلسه، فينخرط في سلك قوله تعالى: {بل متعتُ هؤلاء وآباءهم...} الآية. وكل زمان له رسول، خليفةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الحق ومعرفته. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (31- 32):

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآنُ على رَجُل من القريتين عظيم} أي: من إحدى القريتين؛ مكة والطائف، على نهج قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وعنوا بعظيم مكة: الوليد بن المغيرة، وبعظيم الطائف: عروة بن مسعود الثقفي. وعن مجاهد: عظيم مكة: عتبة بن ربيعة، وعظيم الطائف: ابن عبد ياليل. ولم يتفوّهوا بهذه العظيمة حسداً، بل استدلالاً على عدم نزوله، بمعنى: لو كان قرآناً لأُنزل على أحد هؤلاء، بناء على ما زعموا من أن الرسالة منصب جليل، لا يليق له إلا مَن له جلالة من جهة المال والجاه، ولم يدْروا أنها رتبة روحانية، لا يرتقى إليها إلا همم الخواص، المختصين بالنفوس الزكية، المؤيّدين بالقوة القدسية، المتحلّين بالفضائل الإنسية، وأما المتزخرفون بالزخارف الدنيوية، المتمتعون بالحظوظ الدنية، فهم من استحقاق تلك الرتبة بألف معزل.
قال ابن عطية: وإنما قصدوا إلى مَن عظم ذكره بالسن، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعظم هؤلاء؛ إذ كان المسمى عندهم الأمين. اهـ. ومرادهم: الشرف الدنيوي، بحيث يتعرض للأمور؛ ليُذكَر ويُشار إليه، ورسوله الله صلى الله عليه وسلم كان منزَّهاً عن ذلك من أول النشأة، كما هو حال أهل الآخرة، والنفوس في مهماتها إليهم أميلُ، وعليهم تعول، ولذلك كان أميناً عندهم، ولا ترضى جل النفوس أهل الفضول؛ لأماناتها، ولا تسكن إليها وتطمئن بها، وإنما تعظمها ظاهراً، لا حقيقة. وهذا كافٍ في الرد عليهم في أنهم لا يرضونهم لأماناتهم، لكيف يُرضون لأمانات الوحي. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} [الأنعام: 124]. قاله في الحاشية.
وقوله تعالى: {أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ ربك}، إنكار عليهم، وفيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمِهم في اختيار مَن يصلح للنبوة. والمراد بالرحمة: النبوة.
{نَحنُ قَسَمْنَا بينهم معيشتَهم}؛ ما يعيشون به، وهو أرزاقهم الحسية {في الحياة الدنيا} أي: لم نجعل قسمة الأدون إليهم، وهو رزق الأشباح، فكيف بالنبوة، والعلم، الذي هو رزق الأرواح؟ {ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجات} أي: جعلنا البعض أقوياء وأغنياء وموالي، والبعض ضعفاء وفقراء وخدماء، {ليتخذ بعضُهُم بعضاً سُخْرياً} أي: ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم، ويستخدموهم في مهماتهم، ويُسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا، ويصلوا إلى أعمالهم، هذا بماله، وهذا ببدنه، ولو استووا في الغنى والفقر لبطل جُل المصالح، فسبحان المدبّر الحكيم.
قال القشيري: لو كانت المقاديرُ متساويةٌ لَتَعَطلَت المعايشُ، ولَبَقي كلٌّ عند حاله، فجعل بعضَهُم مخصوصاً بالترفُّه والمال، وآخرين بالفقر ورقّة الحال، حتى احتاج الفقيرُ في حين حاجته أن يعمل للغنيِّ، ليترفّق من جهته بأجرته، فيصلُح بذلك أمر الفقير والغنيّ معاً. اهـ. ولو فوّضنا ذلك إلى تدبيرهم لهلكوا. وإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم، وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية، في غاية العجز، فما ظنهم في تدبير أمر الدين والنبوة؟!.
وقيل: {سخريا} أي: يسخر بعضهم من بعض.
{ورحمتُ ربك} أي: النبوة، أو: الدين وما يتبعه من الفوز في المآب، {خيرٌ مما يجمعون} أي: مما يجمعُ هؤلاء من حُطام الدنيا الدنية الفانية.
الإشارة: مما جرى في طبع الناس أنهم لا يُقرون الولاية إلا فيمن عَظُمَ جاهُه، وكثر طعامه، أو كثرت صلاته، أو كان مجذوباً مصطلماً، أو: سبقت في أسلافه، وهذا خطأ، فإن الولاية سر من أسرار الله، أودعها قلوب أصفيائه، لا تظهر على جوارحهم، ولا تكون في الغالب إلا في أهل التجريد، وأهل الخمول، أخفاها الله في عابده، فمَن ادعاها من غير تجريد ولا تخريب، فهو مدّعٍ، ولذلك قال أبو المواهب رضي الله عنه: مَا ادّعى شهود الجمال، قبل تأدُّبه بالجلال، فارفضه فإنه دجال.
ويقال لمَن أنكر على أهلها من أهل التجريد: {أهُم يقسمون رحمت ربك...} الآية، ورحمة ربك- هي سر الخصوصية- خير مما يجمعون.
وقال القشيري على قوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم...} إلخ، بعد كلام: ثم إنه تعالى قَسَمَ لبعض عباده النعمةَ والغنى، ولقوم الفقر والقلّة، وجعل لكلّ واحدٍ منهم مسكناً يسكنون إليه، ويستقلُّون به، فللأغنياء وجود الأنعام، وجزيل الأقسام، فشكروا واستبشروا، وللفقراء شهودُ القَسَّام، فحَمدوا وافتخروا، فالأغنياء وجدوا النعمة فاستغنوا وانشغلوا، والفقراء سمعوا قوله: {نحن} فاشتغلوا، وفي الخبر: أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «أما تَرضَون أن يرجع الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى أهليكم؟ والله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون». اهـ.
قوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم...} إلخ، قد سبقت أقسام الرزق قبل ظهور الخلق، فالواجب انتظار القسمة، والرضا بما قسم، كما قال الشاعر:
اقنعْ بما قسم الرزّاق من قِسَم ** وسلّم الأمرَ فالرزاق مختارُ

لا تجزعن ولا تبطَر على مِحَنٍ ** أو مِنَح فإنما هي أحكام وأقدارُ

واقنع بكل الذي يجري الزمانُ به ** ولا يكن منك للمغرور انكسارُ

.تفسير الآيات (33- 35):

{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولولا أن يكون الناسُ أمةً واحدةٌ} أي: ولولا كراهة أن يجتمع الناس على الكفر، ويُطبقوا عليه، {لجعلنا} لأجل حقارة الدنيا عندنا {لِمَن يكفُر بالرحمن لبيوتهم}: بدل مَن {سُقُفاً من فضةٍ} أي: متخذة منها، {ومعارجَ} أي: ولجعلنا لهم مصاعد، أي: سلالم من فضة أيضاً، يصعدون عليها إلى السطوح، {عليها يظهرون} أي: يَعلون السطوح والعلالي عليها، {ولِبيوتهم} أي: وجعلنا لبيوتهم {أبواباً وسُرُراً} من فضة أيضاً، {عليها} أي: السرر {يتكئون}، ولعل تكرير {بيوتهم} لزيادة التقرير. {وزُخرفاً} أي: وجعلنا لهم زخرفاً، أي: زينةً من كل شيء. والزخرف: الذهب والزينة. ويجوز أن يكونَ الأصلُ: سقفاً من فضة وزخرف، أي: بعضها من فضة، وبعضها مِن ذهب، فنُصب عطفاً على محل {مِن فضة}.
{وإِن كُلُّ ذلك لَمَّا متاعُ الحياةِ الدنيا} أي: وما كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بما ذكر من الزخارف الغرارة، إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا، ثم يفنى وتبقى تبعته. {والآخرةُ} أي: ونعيم الآخرة الذي يقصر عنه البيان: خير {عند ربك للمتقين} الكفر والمعاصي. وبهذا يتبين أن العظيم إنما هو العظيم في الآخرة، لا في الدنيا، ولذلك لم يجعل للمؤمنين فيها حظاً وافراً؛ لأنه تمتع قليل بالنسبة إلى ما لهم في الآخرة، ولأنه ربما يشغلهم عن ذكر الرحمن، كما أشار إليه بقوله: {ومَن يَعْشُ...} إلخ.
الإشارة: في الآية ذم للدنيا ولمَن اشتغل بها. وفي الحديث: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي كافراً منها شربة ماء» وعن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصيرٍ، فأثَّرَ الحصيرُ في جَنْبِه، فلما استيقظ، جعلتُ أمسح عنه، وأقول: يا رسول الله؛ ألا آذنتني قبل أن تنام على هذه الحصيرة، فأبسط عليه شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا، وما للدنيا وما لي، ما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ في فيء، أو ظل شجرةٍ، ثم راح وتركها» ورُوي أن عيسى عليه السلام أخذ لبنة من طوب، فجعلها تحت رأسه، فجاءه جبريل عليه السلام، فوكز الطوية من تحت رأسه، ونزعها، وقال: «اترك هذه مع ما تركتَ» وأنشدوا في هذا المعنى:
رضيتُ من الدنيا بقُوتٍ وخرقةٍ ** وأشربُ من كوز حوافيه تُكْسَرُ

فقل لبني الدنيا اعزلوا مَن أردتُم ** وولُّوا وخلوني على البعد أنظرُ

وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا خراب، وأخرب منها قلب مشتغل بها» ومَن اشتغل بها غَفَلَ عن ذكر الرحمن، وسُلط عليه الشيطان.

.تفسير الآيات (36- 42):

{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)}
قلت: {مَن يعش}: شرط وجواب. وحكي أن أبا عبد الله بن مرزوق دخل على ابن عرفة، فحضر مجلسه، ولم يعرفه أحد، فوجده يُفسر هذه الآية: {ومَن يعش عن ذكر الرحمن}، فكان أول ما افتتح به- يعني ابن مرزوق- أن قال: وهل يصح أن تكون {مَن} هنا موصولة؟ فقال ابن عرفة: وكيف، وقد جزمت؟ فقال ابن مرزوق: جزمت تشبيهاً بالشرطية، فقال ابن عرفة: إنما يقدم على هذا بنص من إمام، أو شاهد من كلام العرب، فقال: أما النص؛ فقال ابن مالك في التسهيل: وقد يحزم مسبب عن صلة الذي، تشبيهاً بجواب الشرط، وأما الشاهد فقوله:
فلا تَحْفِرَنْ بِئراً تُريدُ أخاً بها ** فإنك فيها أنتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ

كذاك الذي يَبْغِي عَلَى ظالماً ** تُصِبْهُ على رَغْمِ عَوَاقِبُ ما صَنَعْ

فقال ابن عرفة: فأنت إذاً أبو عبد الله بن مرزوق؟ فقال: نعم، فحرّب به. وقال. والله ما ظلمناك. اهـ.
وقرأ ابن عباس: {يعشَ}- بفتح الشين، أي: يَعْم، من: عشى يعشى. وقُرئ: {يعشو} على أن {من} موصولة غير مضمنة معنى الشرط، وإلا جزمت كما تقدم. قلتُ: والذي يظهر من كلام التسهيل أن الموصول المضمَن معنى الشرط إنما يجزم الجواب لا الشرط، فتأمله، مع كلام ابن مرزوق. والشاهد الذي أتى به إنما فيه جزم الجواب لا الشرط، فلا يصح ما قاله ابن مرزوق باعتبار جزم لفظ الشرط. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: {ومَن يَعْشُ} أي: يتعَامَ، أو: يعْم. والفرق بين القراءتين أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل: عشى يعشَى، وإذا ضعف بصره بلا آفة قيل: عشَى يعشو. والمعنى: ومَن يعرض {عن ذكر الرحمن} وهو القرآن، لفرط اشتغاله بزهرة الدنيا، وانهماكه في الحظوظ الفانية، فلم يلتفت إليه، ولم يعرف أنه حق- على قراءة الفتح- أو: عرف أنه حق وتعامى عنه، تجاهلاً، على قراءة الضم، {نُقَيّضْ له شيطاناً فهو له قرينُ}، قال ابن عباس: نسلطه عليه فهو معه في الدنيا والآخرة، لا يفارقه، ولا يزال يوسوسه ويغويه. وفيه إشارة إلى أن مَن دام عليه لم يغوه الشيطان. وإضافته إلى {الرحمن} للإيذان بأن نزوله رحمة للعالمين، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، أي: ما ذكره الرحمن وأوحى به في كتابه، وقال ابن عطية: ما ذكّر الله به عباده من المواعظ. ويحتمل أن يريد مطلق الذكر، أي: ومَن يغفل عن ذكر الله نُسلط عليه شيطاناً، عقوبة على الغفلة، فإذا ذكر الله تباعد عنه.
{وإِنهم} أي: الشياطين، الذي قيّض كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو، {ليصدُّونهم}؛ ليمنعون العاشين {عن السبيل}؛ عن سبيل الهدى الذي جاء به القرآن، {ويحسبون أنهم مهتدون} أي: أنفسهم مهتدون، أو: ويحسب العاشُون أن الشياطين مهتدون، فلذلك قلَّدوهم، فمدار جمع الضمير اعتبار معنى {مَن} كما أن مدار إفراده فيما سبق اعتبار لفظها.
وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجديدي، لقوله: {حتى إِذا جاءنا} فإن {حتى} تقتضي أن تكون غاية لأمر ممتد، أي: يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصد والحسبان الباطل، حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة. ومَن قرأ بالتثنية، فالمراد العاشي وقرينه. قال مخاطباً لقرينه: {يا ليتَ بيني وبينك} في الدنيا {بُعد المشرقين} أي: بُعد المشرق والمغرب، أي: تباعد كل منهما من صاحبه، فغلب المشرق على المغرب، كما قيل: القَمَران والعُمرَان، وأضيف البُعد إليهما، {فبئس القرينُ} أنت.
قال تعالى: {ولن ينفعكم اليومَ} أي: يوم القيامة {إِذ ظلمتمْ} أي: حين صحّ وتبيّن ظلمكم وكفركم، ولم تبقَ لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين. و{إذ}: بدل من اليوم. وقوله: {أنكم في العذاب مشتركون}: فاعل ينفع، أي: لن ينفعكم يوم القيامة اشتراككم في العذاب، كما كان في الدنيا يُهون عليكم المصيبة اشتراككم فيها، لتعاونكم في تحمُّل أعبائها وتقسيمكم لعنائها، ولذلك قيل: المصيبة إذا عمّت هانت، وإذا خصت هالت، وفي ذلك تقول الخنساء:
ولولا كثرةُ الباكين حَوْلي ** على إخوانهم لقتلتُ نفسي

ولا يبكون مثلَ أخي ولكنْ ** أُعزّي النفسَ عنه بالتأسِّي

أما هؤلاء فلا يؤسّيهم اشتراكهم، ولا يُروّحهم، لأن بكلٍّ منهم ما لا تبلغه طاقة، وقد ورد أنهم يكونون في توابيت من نار، لا يرى أحد صاحبَه، بل يظن أنه وحده فيها. وقيل: الفاعر مضمر، أي: ولن ينفعكم هذا التمني، أو هذا الاعتذار؛ لأنكم في العذاب مشتركون؛ لاشتراككم في سببه، وهو الكفر، ويؤيده: قراءة مَن قرأ: {إنكم} بالكسر.
وكان صلى الله عليه وسلم يُبالغ في المجاهدة في دعاء قومه، وهم لا يزيدون إلا غيّاً وتعامياً عما يشهدونه من شواهد النبوة، وتصامماً عما يسمعونه من القرآن، فأنزل الله تعالى: {أفأنت تُسْمِعُ الصمَّ أو تهدي العُمْيَ}، وهو إنكار وتعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، وقد تمرّنوا في الكفر، واستغرقوا في الضلال، حيث صار ما بهم من العشي عَماً مقروناً بالصمم، أي: أفأنت تقدر أن تُسمع مَن فقد سمع القبول، أو تهدي مَن فقد بصر الاستبصار. {ومَن كان في ضلالٍ مبين} أي: ومَن كان في علم الله أنه يموت على الضلال. ومدار الإنكار هو التمكُّن والاستقرار في الضلال المفرط، بحيث لا ارعواء له منه، لا توهم القصور من قبل الهَادي، ففيه رمز في أنه لا يقدر على ذلك إلا الله.
{فإما نَذْهَبَنَّ بك} أي: فإن قبضناك قبل أن ننصرك على أعدائك، ونشفي صدور المؤمنين منهم، {فإنا منهم منتقمون} أشد الانتقام في الآخرة. {أو نُرِيَنَّكَ} العذاب {الذي وعدناهم} قبل أن نتوفينك، كما وقع بهم يوم بدر، {فإِنا عليهم مقتدرون} العذاب {الذي وعدناهم} قبل أن نتوفينك، كما وقع بهم يوم بدر، {فإِنا عليهم مقتدرون} بحيث لا ناصر لهم من حلول نقمتنا وقهرنا. وإما: شرط دخلت ما على {إن} توكيداً للشرط، وزاد التوكيد نون الثقيلة.
الإشارة: كل مَن غفل عن ذكر الله تسلّط الشيطان على قلبه بالوسوسة والخواطر الردية، وقد ورد في الحديث: «إن قلب ابن آدم ملك وشيطان، فإذا ذكر الله قرب الملك منه وانخنس الشيطان، وإذا غفل عن ذكر الشيطان قرب منه، فلا يزال يوسوسه ويمنيه حتى يغفله عن الله» ولا شك أن الذكر الذي يصرف الشيطان عن القلب إنما هو الذكر القلبي لا اللساني، فكم من ذاكر بلسانه وقلبه مشغول بهواه، فذكر اللسان نتائجة الأجور، وذكر القلوب نتائجة الحضور ورفع الستور، وشتان بين مَن همّه الحور والقصور، ومَن همّه الحضور ورفع الستور، هذا من عامة أهل اليمين، وهذا من خاصة المقربين، فإذا أردت يا أخي ذكر القلوب، ولمعان أسرار الغيوب، فاصحب الرجالَ، حتى ينقلوك من عالم الطبيعة إلى عالم الروحانية، وإلا بقيت في عالم الأشباح.
قال القشيري: مَن لم يعرف قَدْرَ الخلوة مع اللّهِ، فحادَ عن ذكره وأخلدَ إلى الخواطر الرديَّة، قيَّض اللّهُ له مَن يشغله عن الله- وهذا جزاء مَن تَرك الأدب في الخلوة. وإذا اشتغل العبدُ في خلوته مع ربَّه، وتعرَّض له مَن يشغله عن ربه، صَرَفه الحق عنه بأي وجْهٍ كان.. ويقال: أصعبُ الشياطين نَفْسُكَ، والعبدُ إذا لم يَعرفْ قدر فراغ قلبه، واتَّبَعَ شهوته، وفتح ذلك البابَ علَى نَفْسه، بقي في يد هواه أسيراً، لا يكاد يتخلصُ منه إلا بعد مُدة. اهـ.
وقال في الإحياء: للشيطان جندان؛ ند يطير، وجند يسير، والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار. ثم قال: فتحقق أن الشيطان من المنظَرين، فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين؛ إلا أن تصبح وهمومك هم واحد، وهو الله، فيشتغل قلبك بالله وحده، فلا يجد الملعون مجالاً فيك، فعند ذلك تكون من عباد الله المخلّصين، الداخلين في الاستثناء من سلطنته. ولا تظن أن يفرغ منه قلب فارغ من ذكر الله، بل هو سيّال يجري من ابن آدم مجرى الدم، وسيلانه مثل الهواء في القدح، إن أردت أن يخلو عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو غيره، فقد طمعت في غير مطمع، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه من الهواء لا محالة، فكذلك القلب المشغول بتفكُّر مهم في الدين، يخلو عن جولان الشيطان، وإلا فمَن غفر عن الله، ولو لحظة، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان، وإلا فمَن غفل عن الله، ولو لحظة، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان، ولذلك سبحانه: {ومَن يعش عن ذكر الرحمن نُقيض له شيطاناً فهو له قرين}. اهـ. المراد منه.
وكل مَن عوّق الناس عن طريق الحق يصدق عليه قوله: {وإِنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون}، فإذا تحققت الحقائق، وارتفع الغطاء، وظهر الصواب من الخطأ، قال للذي صدّه عن طريق القوم: يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين فبئس القرين، فيقول الحق جلّ جلاله: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنفسكم} حيث حرمتموها من الوصول إليّ أنكم من عذاب الحجاب مشتركون. ويُقال لمَن وعظ ودعا إلى الله، فلم يُقبل منه: {أفأنت تُسمع الصُّم...} الآية. فإما نذهبنَّ بك بالموت، فيقع الندم عليك، أو نُرينك الذي وعدناهم من العز لك والنصر، والانتقام ممن آذى أولياء الله، فإنا عليهم مقتدرون.